يوميات معيشتنا بها ما يفيض من مسامع التشكّي و -التحلطم- تجاه مفردات الواقع اقتصاديًا، سياسيًا..الخ أو حول مفردات حياتنا الشخصية.
فهل نحن بحاجة لنقل هذا المزاج، ومدّه إلى المنصات الالكترونية للتواصل الاجتماعي؟
أم أن مساحات التعبير والتصريح التي وسّعتها تلك الوسائط كان لها أن تتيح لنا خلق مفردات ومفاهيم جديدة، أو على الأقل تتقدم بخطوة عن تلك التي نعايشها في يومياتنا، والتي في الغالب تخلقها أجهزة الإعلام والدعاية الرأسمالية، والرأسدينية، وغيرها من الرؤوس؟!
لماذا انسحبت، وامتدّت آلام المعايشة إلى تلك المنصات، ولماذا لم ننظر لها نظرة الانفراج، ونظرة الإمكان، لخلقٍ جديد من المعنى والنظر !
أليست تلك المنصات، - كما يروج ويُتعللّ - أنها مساحات أكثر -تحررًا- وانفلاتًا من قيودٍ طالما فرضت على أصحاب الرأي والقلم؟ أليست حقًا اجتازت، بل قفزت فوق كثير من الحدود ؟
على سبيل المثال لا الحصر، اجتيازها قيود النشر والتوزيع الأرضية لكثير من المكتوب والمسموع في بلدان شديدة التعقيد والضبط؟!
لعلّ واحدًا من الأسباب - في نظري-، هو ذاك الخلط الذي ما تصدّى له أحدٌ خوفًا من خسران الجماهير، وطمعًا في مداعبة آلامهم، وتطلعاتهم الاتكاليّة في جلّها، نحو مخلّص، فكرةً كان أم شخصًا.
وهذا الخلط حادثٌ بين مفهومنا للحرية من جهة، وللحقوق من جهة أخرى، والعلاقة بينهما، والذي لاتكاد تجد أحدًا من المتصدرين للخطاب الثقافي والسياسي والديني أيضًا، في هذين العنوانين، إلا ويربط بينهما ! إلا ويخلط حابلًا بنابل!
لا أحد - من المتصدرين- يمينًا أو يسارًا، يرى الحرية إلا أنه أمر منوط بآخر، بمعنى أن حريتك، منوطة بأمر وفعلٍ من سواك ! ويفلسفون الأمر، ويطيلون في شرحه وتبيانه، وتفسير سبل نظمه وبناءه! ولست في معرض نقاش اطروحاتهم -المكرورة يمينا ويسارًا-، فكل ما يختلفون فيه استشهادات ودعائم الفكرة كلٌ تبعًا لمرجعيته.
وأختصر رأيي بكل مباشرة، إن الحرية التي تُعلّق بسببٍ من آخر، ليست حريًة، بل هي عبودية. حريتك ليست رهن أحد، أو فكرة، أو مبدأ.
الحرية، هي قدرتك على دوام النفي، فلا يسعنا سوى النفي دومًا لإثبات حريتنا.
إنها فعل وجداني، وليست فعلًا ضدّ آخر، أو لأجل آخر، إنها فعل ذاتي، جوانيّ، لايسع أحدًا أن ينوبك عنه، أو أن يمنعه أو يعطيه لك، إنها مسؤوليتك، وبقدر وعيك بمسؤوليتك تجاه نفسك أولاً قبل كلّ شيء، تكون حرًا.
أما الشيء الآخر الذي يتناولنه ويتعلّكونه بمناسبة أو غير مناسبة، فما هو إلا عراكٌ بندوليّ، حول الحقوق. الحقوق التي التبس معناها بالحرية من جهة، بسبب الاتكالية والاعتمادية في مفهومهم لها، ومن جهة في أنها غير محدودة البنود أصلاً، بل إنها بطبيعتها مرهونة البناء والتفصيل، لمنظومة مدّعيها الثقافية، فما هو حقّ لك في بيئة اجتماعية ما، قد يكون حقًا عليك، وفي هذا لاضير -اجمالًا- نسبةً إلى تقدير نمو المجتمعات، وتطور مفهوماتها للوجود ولحياتها اليومية ومستجداتها،
كما خالط هذا الأمر مفروضات القوة الناعمة والصلبة سياسيًا، ولذلك لم يصل أهل الأرض بعد لاتفاق جامعٍ كامل، سوى ادعاء وحيد - كنوع من الدعاية يستغلها القوي على الضعيف- فيما يسمّى وثيقة حقوق الإنسان. والتي لاتعدو كونها وثيقة للضغط، والمناورات، أو حجة للبعض في الهرب منا هنا أو هناك.
هذا المناقشة العابرة للحق والحرية، كان لابد منها، دخولًا إلى سؤالي:
ماذا فعلنا حين اتسعت مساحة التعبير ؟
هل فعلًا نحن بحاجة إلى تكرار ونقل المعاناة وصياغتها من المعايشة اليومية، إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ ما جدوى هذا الفعل ؟!
أليس هذا متناقضًا مع ادعاءات التحرر؟!
لماذا حين اتسعّت مساحاتنا، عدنا نضيقها بالشكوى والتحلطم ؟
بدل البدء بخلقٍ معنوي جديد، لماذا نستخف هذا الفعل؟
لماذا نحن عميٌ عن الخطوة بالحظوة؟ حظوة الظهور، حظوة التابعين، حظوة المتعاطفين.. الخ
لماذا نكسل عن فعل الصغير، ونتعنّى ونتغنّى بمفاعل عظيمة كبيرة، نصيبنا منها الادعاء والتنادي، فمن يفعل صغيرها؟!
تكرار ومدّ البؤس اليومي، والشكوى، وما إلى ذلك إلى مساحات وسعّتها تقنيات التواصل الحديث، لا يؤكد إلا على أن الحريّة ليست أمرًا يعطى، وليست فعلا ضد أو مع أحد، موقف، قضية ما.!
بل فعلاً ذاتيًا عن مسؤولية، عن احترام لصغير الفعل لا تعلّقا بكبيره فقط.
إن أشد بؤس نعيشه، أننا عاجزون عن افتعال هذا الخلق الصغير، يائسون حدّ الكسل عن ابداع صغيرٍ من المعنى في مساحاتنا الأكثر استاعًا من واقعنا المعاش، فلم نلوم سوانا في عظيم، حين نكسل ونتخلّى عن مسؤوليتنا في صغير ؟!
